اقلام وافكار حرة

البيان النموذج: هكذا تغطّي المصارف جرائمها

قرأتُ بيان جمعيّة المصارف الذي صدر قبل يومين مرّة ومرّات وبقيتُ مشدوها أمام ما تضمّنه من تشويه حقائق وخداع ودعاية ماكرة، غير مصدّق ما جاء فيه من ادعاءات، واحتفظتُ به نموذجا يمكن أن يُدرّس في الجامعات عن كيفيّة تغطية الحقيقة واظهار عكسها. رغم أنني، من خلال تخصّصي في علوم الإعلام، أمتلك الكثير من الأمثلة عن الدعاية والخداع. هذا البيان يصحّ نموذجاً لشرح كيفية تشويه الحقائق والصاق الجرائم المرتكبة بالغير.

البيان الذي حمل عنوان: «جمعيّة مصارف لبنان ردّاً على الإجراءات غير القانونية والممارسات التعسفية بحقّها»، جاء مطلعه كالتالي: «آثرت المصارف حتى اليوم السكوت عن الإجراءات غير القانونية والممارسات التعسفية والضغوطات غير الواقعية وحملات التشهير المستمرّة الصادرة عن العديد من الجهات الرسمية وغير الرسمية».

نعم، المصارف تتحدّث عن إجراءات غير قانونية بحقّها، وعن ممارسات تعسّفية ضدها، وضغوطات غير واقعية، وحملات تشهير.

-إجراءات غير قانونية؟ وهل احتجاز ودائع الناس من جانب المصارف هو قانوني؟ وهل قرارات المصارف حول السحوبات وكميتها هي قانونية؟ هل اقتطاع مصاريف عشوائية من حسابات المودعين هي قانونية؟

-ممارسات تعسّفية؟ هل هناك تعسّف أكثر من رفض المصارف إعادة الأموال الى أصحابها؟ وأكثر من منع الموظفين من قبض كامل راتبهم المحوّل لديها؟ واعتماد الانتقائية بين الزبائن فتسمح للنافذين بتهريب أموالهم، ومنعها عن آخرين؟

-ضغوطات غير واقعية؟ وهل هناك ضغوطات أقسى من تلك التي يعانيها المدّخرون الذين أفنوا حياتهم بالعمل فاذا هم اليوم يقفون كالشحّاذين على أبواب المصارف للاستحصال على بعض فتات؟ أو ليست الضغوط الأكثر إيلاماً هي على من وثق بالمصارف ووضع جنى حياته فيها ليضمن شيخوخته وأمان عائلته فاذا هو اليوم يعاني ضغوطات الحياة من دون أي معين؟

-حملات تشهير؟ هل هو تشهير حين يقول الناس أن المصارف تقوم بحرمان الناس من مدخراتها وأموالها؟ هل هو تشهير حين يقولون أن أموال الناس التي أودعوها في المصارف قد تبخّرت وأن «الفجوة المالية» سيتمّ سدها من أموال المودعين ؟

كما تناول البيان «الإجراءات القضائية غير القانونية والتعسفية التي يشوبها عيب تجاوز حد السلطة». ونسأل: من يمارس تجاوز حد السلطة ويضرب عرض الحائط بالقوانين ويحتجز أموال الناس من دون أي مسوغ قانوني؟ من يسمح له القانون بأن يحدّد للناس حجم انفاقهم وكيفية التصرف بأموالهم؟

ويضيف البيان: «إن المصارف لا يمكنها أن تبقى بالرغم عنها في مواجهة مع المودعين لأسباب لا تعود لها ولا تتحمل مسؤوليتها». بلى، المصارف مسؤولة عن ضياع أموال الناس، ولا يمكنها أن تنفي أن طمعها وجشع الربح الكبير هو الذي دفعها الى توظيف أموالها في سلة الدولة المفخوتة والمنهوبة. هي تتحمّل مسؤولية المراهنة بأموال الناس على «طاولة قمار»(…) وتتحمّل مسؤولية تهريب رؤوس أموالها وأموال الطبقة السياسية الى الخارج مهما ادعت العكس.

ويختم البيان: «إن استمرار اتخاذ التدابير التعسفية وغير القانونية بحق المصارف تطيح بالقطاع المصرفي وتلحق أشد الضرر بمصالح المودعين». وكأن القطاع المصرفي ما زال قائما، وكأن أموال المودعين لم يلحقها الضرر بعد. لقد سقط القطاع المصرفي، ليس من اليوم بل منذ أن تحوّل دوره من داعم للاقتصاد الى مرابٍ ومقامر، منذ بدأ استخدام الودائع في المضاربة بدلا من أن تكون في خدمة الاقتصاد الوطني والاستثمارات المنتجة. لقد سقطت المصارف اللبنانية القائمة الى غير رجعة. لن يثق أحد بعد اليوم بهذه المصارف، ولن تسترجع مصداقيةً فقدتها ولو بعد عشرين سنة. أما أموال المودعين، فقد قُضي على المودَع منها بالليرة اللبنانية التي باتت ورق مونوبولي، أما المودَع بالعملات الأجنبية فيتمّ قضمه يوما بعد يوم، وما بقي منه لا أحد يعرف مصيره.

لا شيء يخفّف من الجريمة التي اقترفتها المصارف بحق الشعب اللبناني. ولا يمكنها القاء اللوم على المصرف المركزي ولا على المسؤولين السياسيين. فالناس وضعت ودائعها في المصارف وليس عند السياسيين. والمصارف مسؤولة عن ادارتها وتوظيفها، انها أمانة بعهدتها ولا يجوز لها التصرّف بها بخفّة ومخاطرة.

ما اقترفته المصارف اللبنانية بحق الشعب اللبناني يرقى الى مستوى الجريمة:

-انها جريمة أخلاقية، بكونها بمثابة سرقة ادخارات الناس ونتاج عرقهم وتعبهم.
-إنها جريمة قانونية لأنها ضرب للقوانين القائمة.
-إنها جريمة إجتماعية بالنظر الى المآسي الانسانية التي تولّدت عنها.
-إنها جريمة إقتصادية لأنها ضربت احدى أهم ركائز الإقتصاد الحر الذي يقوم عليه النظام اللبناني.
-إنها جريمة وطنية لأنها أدت الى تيئيس مئات الاف الناس، ودفعت بعضهم الى الهجرة، وتسببت بفقر عام، وبفقدان الثقة بالوطن.

المصارف هي المسؤولة الاولى بسبب طمعها وانعدام رؤيتها، بسبب تهريب رساميلها الى الخارج والتضحية بأموال الناس.

طبعا هناك مسؤولية على المصرف المركزي. هناك مسؤولية كبيرة على الطبقة السياسية التي أثرت من أموال المصرف المركزي واعتبرتها أموالا حلالا لها فصرفت وبذّرت ونهبت وهدرت عشرات مليارات الدولارات تاركة الشعب يشحذ لقمة عيشه.

ليس غريباً أن يسارع بعض السياسيين الى الدفاع عن المصارف منتقدين الخطوات القضائية الأخيرة بحقّها. فليس خافيا أن الكثير من رجال السياسة هم شركاء في المصارف، هم شركاء في عملية نهب المال العام، وشركاء في تهريب رؤوس الأموال الى الخارج.

هؤلاء السياسيون الحاكمون أنفسهم الذين يراوغون منذ أكثر من سنتين رافضين صياغة قانون الكابيتال كونترول تاركين الناس على رصيف التشرد والهجرة والجوع والبرد، بانتظار ان تكون المصارف قد اقتطعت النسبة الكبرى من أموال المودعين، وبانتظار ان يكون الناس قد قطعوا الامل من عودة أموالهم. أما القضاء فقد تأخر كثيراً في دوره في حماية القوانين. كان من المفترض أن يتحرّك منذ أن سمحت المصارف لنفسها خرق القوانين وحرمان الناس من ودائعهم. وحركته الجزئية والانتقائية اليوم لا تقنع أحداً.

انها مافيا السياسيين القابضين على السلطة والمصرفيين التي أوصلت لبنان الى الإنهيار بسبب فسادهم وسوء إدارتهم وعدم إكتراثهم بشعبهم، وبسبب غياب مفهوم رئيسي يفترض بكل من يتحمل مسؤولية أن يمتلكه وهو مفهوم المصلحة العامة.

د. جورج صدقه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock