اقلام وافكار حرة

حين قال لي طفلي ليتنا كنا أمريكيين!!

إنكسرت نظارات طفلي البالغ من العمر 12 عامًا. وعدته بأنني بعد انتهائي من عملي سأصطحبه لإصلاحها.
بفرحٍ طفوليٍ في وطن القهر قال :” ياي، يعني رح إضهر”…

عذرًا يا صغيري، لم يعد للنزهات وجود في تفاصيلنا، هذا ما أراده المسؤولون، أقصى أحلامكَ “مشوار” ولو بحكم الضرورة.

توترت أثناء ازدحام السير، وانتبهت أن عدّاد البنزين “ضوّى”، انتظرت بقلق وصولي إلى المحطة مخافة أن تكون مغلقة..تنفست الصعداء.

“500 ألف لو سمحت”…. لم يتحرك العداد سوى بعض الشيء..
“ماما يمكن عمو ما عبالك ب500 ألف ما تحركت الإشارة!!”…
تحركتُ أنا وشرحت لطفلي كيف أن هذا المبلغ لم يعد يساوي الكثير وأن النوعية رديئة ولكنه أصر على عدم التعبئة مرة أخرى من هذه المحطة… يا ليت يا صغيري مشكلة المحروقات تُحل بتغيير المحطة….نحن بحاجة إلى تغيير وطن وخريطة وتفكير وزعيم ورئيس…ماذا لو علمتَ يا صغيري أننا بلد عائم على ثروة نفطية؟؟؟

وصلنا إلى “الأوبتيك”..الدكتور؛ زميلي؛ بادرني برشق من الأسئلة ودفعة على الحساب من “النق” الذي ما اجتمع لبنانيان إلا وكان ثالثهما…ضقت ذرعًا واستعجلته فحص عدسات نظارات إبني وابلاغي كلفة تصليحها…”بسيطة..مش مشكلة..كرمالك وكرمال هالشاب الحلو 23$”..
رمقته بنظرة فارغة من أي ردة فعل…
“ما تزعلي صديقتي…باللبناني قديش؟ اضربي 23 × 40؟”

” لماذا 40؟؟؟؟” سألته.لأن الدولار 38400.. أجابني!

أمسكت هاتفي أجري العملية الحسابية: 23× 40= 920 ألف ليرة لبنانية…
أذهلني الرقم…

أنا زميلته….وأعرف أن العدسات عنده منذ أكثر من 3 سنوات..هو قبل أزمة الكورونا استورد من الصين “كونتاينر عدسات” قال لي وقتها أنها تكفيه لأكثر من 5 سنوات….
انتشلني صغيري من شرودي: ” لو الدولار بعدو 1500 كان حقن طلع 34500″…

لو يا صغيري لو…

قلت لزميلي الدكتور: هذه العدسات من تلك التي أحضرتها من الصين؟ إحمرّ خجلًا.. أو لعلي شُبه لي بذلك لأنه قال لي: خلاص 900 ألف مش 920 ألف…

تذكرت مقولة التجار الفجار…وداعًا يا صديقي الطبيب…انضممتَ إلى أولئك المستفيدين من الأزمات…

أمي..دعيني أدخل إلى المكتبة قليلًا..
قلم الستيلو 6$ / الممحاة 2$/ علبة الهندسة 9$/ قارورة الماء 12$!!!!!!!
نعود أول الشهر بعد أن تقبضي راتبك…أنقذني صغيري من ارتباكي..وغادرنا.

دخلنا السوبرماركت: بكم كرتونة البيض؟ 190000. لم أتمالك نفسي : ماذا؟؟؟؟؟؟ فأجابني البائع ببرودة: مدام ما بيطلعوا 4 $!!!!

غادرت…تذكرت أن صغيري معي: ألا تريد أن تشتري شيئًا؟

قال لي بغضب:” لا…لوح ال milka مبارح كان ب40 ألف وهلق حقو 60 ألف وما بدي احسبو قديش عالدولار”..

خجلتُ من أنه حتى لوح الشوكولا بات يفكر صغارنا بثمنه ويقيسون قدرتنا على شرائه من عدمها…

في طريق العودة إلى المنزل سألني صغيري: لو كنتِ تتقاضين راتبًا بالدولار لكان كل شيء رخيص الثمن بالنسبة لكِ…
أجبته باستفاضة عن الأزمة الاقتصادية التي تسببت بانهيار الليرة اللبنانية وحاولت أن أذكره بأننا لا يجب أن ننجر إلى الدولرة في كل شيء وأن التجار الذين يسعرون بالدولار يقومون بعمل غير قانوني…وأسهبت في حديثي عن الوطن والوطنية والانتماء..لأول مرة شعرت أنني أتحدث عن قناعة غير تامة..ربما تزعزعت مواطنيتي سألت نفسي…انزعجت…إلى أي درك وصلنا؟ وإلى أين سنصل بعد؟؟؟

أمي ليتنا كنا أميركيين.لماذا؟لأننا كنا سنعيش في بلاد الدولار..ولكن….أميركا تحب لبنان يا أمي..لا تنسي أنهم سمحوا لفرقة مياس بالربح..

توقفت عن النقاش…نادرًا ما أمتنع عن استكمال هذه النقاشات الرائعة التي تسعدني مع طفلي…ولكنني وجدتني فاقدة لأهلية النقاش والإقناع…فأنا أمٌّ لبنانية مذلولة، مكسورة، مقهورة، متعبة، مرهقة…لعبة الأرقام والحسابات والسوق الموازية أتت على آخر معاقل صمودي… ودون شك مثلي مئات الآلاف.

الصحافية: نادين خزعل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock